الفصل الثامن عشر
("لا يكمن التعب في تحقيق أكبر الانتصارات، المعاناة في المحافظة عليها وألا يخطفها منك الصعاليك")
بيروت، خريف 2017
وحدنا، أنا وحيرتى على أرجوحة يأسى ورجائى، أراوح بين هذا وذاك، فلا رجاءً بلغت فتهدأ روحى وتُفرِخ أُنسًا، ولا يأسًا قطعت فأزهد فيما حولى. فراغ يملأ القلب وحيرة تتلبس الفكر فلا تعرف في أى مكان أنت ولا إلى أى جهة تسير، انكسرت بوصلة الحاضر فلا مستقبل عرفت ولا ماضٍ تذكرت، غرق الملاح البارع في المياه الضحلة، فقدت سفينته طاقتها بعد ما جهزها بما يعينها على خوض عباب البحار؛ حصنها ضد الموج، وضد الصخر، وضد الحر، وضد البرد، لكنه نسى أن آخِيل، ذلك الفارس المحصن الـمُترَس بالحديد، لم يؤت سوى من كعبه، وهذا ما حدث لملاحنا، أوتى من قلبه.
يا لأسفى عليك أيها الملاح المسكين، غفلت عن ضعف قلبك وها أنت هائم على وجهك تترنح على سطح السفينة، تسخر منك الأمواج وتهزأ بك الرياح. ما أشبه حالك بسانتياجو، البحار العجوز في رائعة آرنست هيمنجواى، العجوز والبحر، خرج للصيد يحدوه أمل؛ قطع خيط نحس استمر أكثر من ثمانين يومًا خرجت فيها صنارته فارغة من دون سمك. ومع هذ ظل كل صباح يتأبط الأمل ويغدو إلى عمله قبل الشروق.
وعندما عَلِقت بصنارته إحدى أسماك الماندرين العملاقة قضى ليال متعاقبة يناور صبرها وجَلَدها، سحبته بعيدًا عن الشاطئ فثابر بلا زاد ولا ماء حتى تغلب عليها وربطها إلى جسم القارب بعد ما وجدها تفوق القارب طولاً، تخيل، نظرة حسد الصيادين وتبجيلهم له حين يصل إلى الشاطئ بصيده الثمين، لكنه صحا من خواطره على هجوم أسماك القرش تنهش سمكته بعد ما جذبتها رائحة دمها، دافع عنها، قتل بعض الأسماك المهاجمة، وفى النهاية استسلم لهجوم كاسح من سرب قروش لم يُبق في سمكته سوى الرأس والهيكل العظمى ليعود إلى الشاطئ برمز انتصاره الزائف، تاجٌ من سراب، خيبته الكبرى.
لا يكمن التعب في تحقيق أكبر الانتصارات، المعاناة في المحافظة عليها وألا يخطفها منك الصعاليك، فيتركوك تتعب وتجتهد ليحصدوا ثمار انتصاراتك في لحظة، تمامًا مثل قرصان القراصنة (مورجان)، كان يهاجم سفن القراصنة ليستولى على ما تعبوا في نهبه وجمعه في شهور طويلة، أحيانًا تغنيك حرب واحدة عن الدخول في حروب طويلة.
منذ تلك اللحظة، تباعدت لقائاتنا أو على الأقل خبا بريقها ودفئها، لم نعد هذين الحبيبين اللذين كانا يندفعان تجاه بعضنا البعض كلما التقيا بعد غياب، إذا رفعت سماعة الهاتف لأطلبها أجد خيال إيلى ماثلاً أمامى يسألنى بعينيه الصامتتين؛ لماذا تتصل بها، وحتى إذا ما غالبت مشاعرى وطلبتها، يأتيني صوتها خافتًا حينًا، وغامضًا حينًا آخر، خلاف مرات كثيرة يرن في أذنى جرس الهاتف دون رد.
قصفت عودته احتمالات لقاءاتنا في مقتل، أراها في العمل، تمر على أو أمر عليها، وحتى إذا تناولنا القهوة في أحد المقاهى القريبة بساحة النجمة، على خلاف العادة، نجلس بداخله، فيما تشدو فيروز في الخلفية (ليش بنتلفت خايفين). غيرنا مكاننا الذى طالما اعتدناه واعتادنا، على الرصيف صيفًا، وداخل كُشك بلاستيكى شفاف شتاءً، نتابع منه الشارع ونتقى به زخات المطر، لم نخش عيون الغرباء، نتصرف بتلقائية تقترب كثيرًا من تصرفات خطيبين أو زوجين.
عاش كل منا حالتين مختلفتين، وكأننا أُصبنا بانفصام في شخصياتنا، لكل منا حالة خاصة به يعيشها عندما يأوى وحيدًا، هى تندمج مع ابنتها ومشاغلها الخاصة مع زوجها، وأنا مع وحدتى وشلة الأصدقاء على الكورنيش قبل شروق الشمس حتى انصرافنا متى دقت الساعة السابعة، فإذا ما التقينا نسى كل منا دنياه الخاصة وتصرفنا كحبيبين لا يفترقان.
أدى انفصامنا إلى الوقوع في فخ الاعتياد، أشياء كثيرة نعتادها وننسى مكانها من الواقع الذى نعيشه، أصواب هى أم خطأ، نمارسها بروتين دون تفكير في كنهها ولا أسبابها، فعلى الرغم من إحساسى بالذنب أقبلت عليها، أحيانا تحت وطأة حاجتى إليها، وأحيانا تدفعني الوحدة تجاهها، وأحيانًا تحت وطأة الغريزة، وها أنذا أجلد نفسى على بوابات الاعتراف لأُطهرها، فهل تتطهر؟.
بعد وصول إيلي أَخَذَت أجازة لأسبوعين سافرا خلالها إلى جونية لقضاء بعض الوقت معًا، اصطحبا الطفلة والخادمة، وبعد خمسة أيام عادا إلى بيروت لأربعة أيام زارا فيها الأهل وسهِرا معًا بمطاعمها ومقاهيها، ثم حزما حقائبهما ثانية وسافرا برًا إلى دمشق لعدة أيام زارا فيها بعض المدن القريبة، فيما احترق أنا في آتون زيت وحدتي.
صُبغت لقائاتنا القليلة المتباعدة بصبغة شبه رسمية، رغم محاولاتنا تفادى المساحات الباردة والمحرجة، وقبعنا -رغم أنوفنا- يغرقنا ثلج الحرج، كما لو كان زوجها حاضرًا معنا، فلم نلتق خلال تواجده ببيروت خارج المكتب.
إطفاءًا لنار مشبوبة بين القرب والبعد أحرث شارع الحمرا مشيًا تارة وبالسيارة تارة أخرى، اتعمد المرور به في مشاويري المتعددة، عَلىّ أراها صدفة، وأحيانًا أميل إلى أحد محال الطعام أو الشراب فأراني أجلس متلفتًا، عن يميني وشمالي، ومن أمامى وخلفي، ثم لا أجد بُدًا من دفع فاتورة الحساب والانصراف خائبًا. لماذا عندما بَعُدَت صرت اترقب قربها.
قطعًا للملل أراجع رسائلها الأخيرة، فأجد أغلبها اعتذارات عن عدم قدرتها على التواصل، يليها تعقيباتي بأننى اتفهم الأمر واتمنى لها وقتًا طيبًا، فترد بصورة رمزية (إيموجى) ساخرة وقد كتبت إلى جوارها (وقت طيب وأنا بعيدة عنك .. كِيف بيصير؟؟).
أقارن بين رسائلها الحديثة الجافة وتلك القديمة المفعمة بالعفوية، كثيرًا ما كانت تصف تعليقاتها بأنها تكتب ما يرد على ذهنها، فمعي لا تجميل ولا تزويق. يرن صوتها في ذاكرتي،
- ناطراك تخلص وتتلفنى
وصلتني رسالتها وأنا منهمك في العمل ذات يوم، وجدتنى أزيح شاشة الكمبيوتر، وأكتب لها الرسالة التالية،
- بس أنا ما ها انتظرك
- ليه حياتى
- لإنك معايا .. ما بتفارقينى
-
-
- ......
بمجئ زوجها تبخر كل هذا، سطع ضوء قوى كاشف، فضحنى أمام نفسى، ألهب ظهر ضميرى بسياط الحقيقة المرة، وَلَدَ في داخلى شخصين متضادين في الفكر، الأول نصب نفسه قاضيًا وجلادًا، وصار الآخر متهمًا لا يدرى كيف يدافع عن نفسه، انبرى القاضى يسأل بغلظة والمتهم صامت لا يحرى جوابًا،
- بأى حق تسورت بستان غيرك ؟
- ......
- بأى حق مددت يدك إلى زهوره ؟
- .......
- وبأى حق شممت وروده؟
- .......
- من سمح لك أن تأكل من فاكهة صيفه وشتاءه؟
- .........
رأيتنى شخصيتين متناقضتين، الأولى تعيش مع شلة الكورنيش صباحًا بصورة تناقض حالها كله مع مايا مساءً.
هل يمكن أن يصل الإنسان بتناقضاته إلى هذا الحد، يعيش حالتين نفسيتين مختلفتين في جسد واحد وعقل واحد، عقل ينهاه كل صباح عن ذات الفعل الذى يجَمَلهُ له في المساء، هل يمكن أن يوجد الملاك والشيطان في ذات الجسد، نعم لسنا ملائكة بالكلية، إنما ببحثنا عن الفضيلة والنأى عن الخطيئة، قدر استطاعتنا كبشر، أليست الفضيلة غاية الإنسان ومنتهى رضاه، فما باله يصل إلى القمة صباحًا ثم يهوى إلى السفح مساءً، أى عذاب هذا الذى أتقلب فيه على مدار الساعة تطاردني لعنة سيزيف، ضائع بين التوبة والخطيئة.
حين أغفو اشتهى أن تكون معى في حلمى. حينها؛ لا نعرف حدودًا لفعل ولا سقفًا لقول، نلهو في دنيا غير الدنيا، ومع هذا لا أملك صُنع الأحلام. عجبًا، في اليقظة والحلم لا نملك أن نفعل ما نريد، في الواقع تُكبلنا القيود الاجتماعية، وفى الحلم نشارك دون إرادة، نجلس في مقاعد المتفرجين رغم أننا الممثلون، أقصى استطاعتنا أن نفيق مذعورين من كابوس.
يمر كلانا بمحنة عاطفية ومع هذا نأنس ما تجاورنا، ونهدأ ما تلاقينا، ونطمئن ما تحدثنا، هل ينتج التقاء ضَعفٍ بضعف قوة؟، كنت أظنه يُوَلدُ ضعفًا أشد، أم أن بوحنا تحت وطأة الضعف هو ما يقوى عزيمتنا ويبث فينا روح المقاومة، نطمئن أننا لسنا فُرادى في مواجهة همومنا بل هناك من يشاركنا إياها، عزاؤنا أنهم ما زالوا قادرين على تحدى روح السلبية وتحصين الجوانب الإيجابية.
كم عقدت العزم، قبل وصول إيلي، أن أقطع علاقتي معها، أو نكتفي بصداقة بريئة، كنت أظننى قادرًا على تركها تنتظر على طاولة العشاء وحيدة حتى تيأس من حضورى، فتحاول رغم الخجل الاختباء من عيون رواد المطعم وعماله، تدارى قلقها مرة باصطناع البحث في الهاتف عن رسالة ما، أو الاتصال فلا يأتيها سوى صوت معدنى رتيب يخبرها أن الهاتف المطلوب مغلق، تنفجر داخليًا بينما يجاهد وجهها الحفاظ على سكونه كعادتها، وفى النهاية تقرر مغادرة المطعم غاضبة ثائرة وتقسم ألا تواصل بيننا، وبينما ترى عبر زجاج المطعم الأمواج العنيدة تلطم الصخور دون جدوى، منذ خلق الله البحر والشاطئ، وهما في عناد بلا نهاية، من الميلاد حتى القيامة.
أى منا الموج وأى منا الصخر؟؛ هى الموج بعنفوانه وكبريائه وإصراره وعدم يأسه، تُزبد غضبًا، تنطح الصخر فيَجفل، ثم ها هو يسترد رباطة جأشه، بعد ما أيقن أن هياج اليوم كهياج الأمس، وأن الموج لا محالة عائد بخيباته إلى البحر؛ يلملم جراحاته، يجمع جزيئاته، ويعيد شحذ بطاريات غيظه، وسرعان ما يتكور حاملاً في ثناياه حقد السنين وحسرة الماضى ويأس المستقبل ويعاود نطح الصخر من جديد صانعًا صدوعًا صغيرة لا تكاد تراها بعينيك، ثم لا تلبث مع الوقت أن تصبح مسارات لبعض من مُتنفث الموج، هكذا صرت أنا ومايا، صخر وموج.
تدور في ذهني الأفكار وتضطرم متى تواعدنا، أقف على الحافة خائفًا ثم أُلقي بنفسي في القاع عميقًا، حتى يخرجني صوتها عبر الهاتف مباشرًا ومباغتًا "ناطراك"، فلا تنتهي المكالمة إلا وأجدني ارتدى معطفى الصوفى الثقيل وأدس نظارتى الطبية في جيب قميصى، وهاتفى في يسراى، ومفاتيح سيارتى في يمناى، ثم أغلق أنوار شقتى التى أعلم أننا، عادة، وفى مثل هذه الأحوال، سوف نعود إليها معًا، فإذا ما خطت عتبتها أخذت بيدي إلى مملكتها ومدينتها الأسطورية، لأظل ظِلاً معذبًا بين طُهرى الظاهرى ودنسى الباطنى، بين إيمانى وترددى، بين يأسى ورجائى.
يا لعذاباتي وحيدًا، عن أى مصير أبحث، وإلى أى قدر أسير، ما أشبه حالى بسانتياجو هيمنجواى وحالها بسانتياجو باولو كويللو، يا لها من مصادفة، يا له من عبث، قرأ كلانا الروايتين، وأحب كلانا سانتياجو في الروايتين، لكننى تعلقت، دون أن أدرى، بالعجوز العائد مخزولاً مهزوما يعلو رأسه إكليل نصر مزيف، بينما توحدت هى مع ذلك الفتى المتآلف مع الطبيعة المنسجم مع لغة الكون.
غيرتنا الأيام دون أن ندرى، سرقت كحل عيوننا وسحر نفوسنا دونما نشعر ولم يبق شيء على حاله، أقبع محصورًا تفترسنى آلام ذنوبى وخطاياى وإجرامى في حقها قربًا وبعدًا، قربًا بتجوالى في بساتين كرومها دون حق، وبعدًا بتعلقها بى واعتيادها على.
وفى خضم هذا التردد والتأرجح والرغبة في الخروج من مدار جاذبيتها، وجدتنى بعد عودة إيلي إلى أبو ظبي بأيام قليلة، أتناول الهاتف ذات مساء وأطلبها، جائنى صوتها ممزوجًا بالبِشر وبادرتنى قائلة:
- انتظرتك تتلفنى
- ليش؟
- لما اشتاق إلك، أتأكد أنك كثير مشتاق إِلِىّْ
- تلفنتك لسبب آخر!
- شو؟!
- مسافر في الغد ل...
سألتنى مقاطعة
- لوين؟
- جوهانسبرج
- شو !؟ عن جد. فجأة؟
- اجتماع طارئ، برجع بعد كام يوم
- ما خبرتنى
- أمس رتبنا
- ومين رتب لك الطيران والفندق !!
- فى جوهانسبرج، متكفلين بكل شيء
قالت بصوت ممطوط أقرب للشكوى،
- يا ربي، كيف ما خبرونى ؟!
- أشوفك على خير
- ....
- سلام
- خلينا على تواصل
- سلام
- .....
لم تكن رحلة جوهانسبرج مفاجأة كما أخبرتها، كنت أعلم بها منذ أكثر من أسبوعين، وآثرت ألا أخبرها بها، فقد عقدت العزم على أن أحلق بعيدًا، وكانت هذه أولى خطواتى.
إلى لقاء في فصل جديد